Header Ads

أسرة من الحي الشرقي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985

  أسرة من الحي الشرقي .. رسالة من بريد الجمعة عام 1985




للقراءة الصوتية بصوت يحيي البوليني






أنا طالب بالسنة الثالثة بإحدى كليات جامعة عين شمس ومتفوق في دارستي والحمد لله ، أسرتي مكونة من أم طيبة مكافحة .. وشقيقتين طالبتين إحداهما معي في نفس الكلية والأخرى بالمدرسة الثانوية وهما والحمد لله فتاتان على خلق ويجمعنا جميعا الحب والتعاطف والترابط .. حيث أننا نواجه الحياة وحدنا بعد رحيل أبي رحمه الله منذ حوالي 10 سنوات ونعيش بمعاشه المحدود حياة متقشفة لكنها مستورة والحمد لله . وقد كافحت أمي معنا كفاحا مجيدا لكي نواصل تعليمنا مستعينة بالصبر وبالحيلة لتدبير حياتنا وتلبية مطالبنا في حدود معاشنا . 

وهي صورة تراها في كثير من البيوت التي تفعل الأعاجيب لكي تستمر في حياتها البسيطة بغير أن تفقد نفسها واحترامها ، ولا يضايقني ذلك فحياتنا لا تخلو من متعة بسيطة نستمتع بها بين حين وآخر ، كجلسة عائلية دافئة في أمسيات الشتاء نضحك فيها على ما نراه في يومنا من صور تثير الضحك أو "كأكلة" بلدية هنية تجيد أمي کسيدات الأحياء الشعبية صنعها في حين ، أو كأكلة من طعام السوق اللذيذ الذي يجيد جيراننا في الحي الشعبي صنعه وعرضه للبيع تسبقه روائحه الطيبة .. الخ .. وهي كلها متع بسيطة لكنها ترضى أمثالنا من البسطاء .. 

وأهم منها بلا جدال أننا جميعا بصحة طيبة .. وأنه لا مكان للكراهية بيننا .. لذلك فأني أكاد أعتبر أسرتنا أسرة سعيدة والحمد لله .. "لولا" .. ولقد قرأت في ردك على رسالة الزوجة الحائرة بسبب زوجها .. أنه ليست هناك حياة خالية من "لولا" الشهيرة هذه .. فقررت أن أكتب لك عن . لولا الخاصة بنا التي تفسد علينا سعادتنا ونتعذب بها العذاب الأليم كل يوم .


 

 فنحن يا سیدي نعيش حياة مريرة لسبب عجيب لا يخطر على بال أحد هو أن والدي رحمه الله منذ ۲۰ سنة لم تستطع إمكانياته المادية أن توفر لنا مسكنا إلا في هذا الحي الشهير من أحياء القاهرة الذي ارتبط اسمه لسوء حظنا بتجارة المخدرات في مصر .. 

طبعا عرفت اسمه ؟ إن كل ذنبنا لدى الآخرين أننا نقيم في هذا الحي الذي يتصور الناس أنه لا يقيم به إلا تجار المخدرات والموزعون والمدمنون .. إلخ، علما بأن هذا الحي كغيره من الأحياء يقيم به موظفون مكافحون وتجار عاديون وعمال لا يربطهم بتجارة المخدرات صلة ، لكن قدرهم أنهم يعيشون في هذا الحي ولا يجدون بالطبع بديلا للسكن فيه مع أزمة المساكن الحالية . 

إنك قد تتصور أن هذه مشكلة تافهة لكنها ليست كذلك أبدا ، فالناس خارج الحي إذا اختلطنا بهم وعرفوا أننا من سكان هذا الحي تغيرت على الفور نظرتهم لنا وتهربوا منا ولم يقبلوا على صداقتنا رغم أننا فقراء شرفاء مثلهم والله العظيم ، وإذا تحدثوا معنا لا حديث عندهم لنا إلا عن المخدرات وأسعارها وأصنافها وهم يسألوننا عن الأسعار والأصناف .. وأسماء التجار الكبار كأننا من صبيانهم ، رغم أني لا أعرف شيئا عن المخدرات ولم أذقها في حياتي ولا أدخن السجائر ولم أذقها أيضا ، فإذا تغيبت عن الكلية لمدة يومين لأي سبب وكأي طالب آخر يقابلني زملائي بالتساؤلات الجارحة .. خير .. كان فيه كبسة عندكم والا إيه ؟.. والا كنت بتوزع البضاعة ؟! فأصمت صمت العاجز عن الرد وفي قلبي ألم لا يحس به احد .. وآخر يقول لي في الكلية "يا عم أنت بتكسب كثير من التوزيع .. إيه اللي عاجبك في التعليم ؟" .. فأحس بغصة في حلقي .. وأعجز عن الرد .. وليتني أستطيع إذن لقلت له : أية مخدرات إن أمي ترتق لي الجورب حتى يكاد يذوب بين يديها وشقيقتي تتبادلان لبس "الجيب" الواحدة والبلوزة الواحدة ، حتى تبليا تماما ، ولولا بطاقة الكساء الشعبي لمشينا شبه عرايا إلى كليتا ومدرستنا .. فأية مخدرات يا صديقي .. وأي عذاب تعرضونني له بغير أن تشعروا .. حسبي الله ونعم الوكيل .. لقد كافحت أمنا كفاح الأبطال لکي لا نسقط في هاوية العمل في "الكار" التي سقط فيها أقراننا منذ البداية تحت ضغط الفقر وضغط الحاجة وضغط نظرة المجتمع لنا .


 فبعض أقراني في المدرسة الإعدادية حسموا المسألة منذ سنوات طويلة وقالوا لأنفسهم إذا كان الناس جميعا يعاملوننا كصبية لتجار المخدرات ونحن نقاسى من الفقر .. ولا فائدة من إقناع أحد ببراءتنا ، فلماذا نتحمل الفقر إذن ؟.


وهكذا انجرفوا إلى الجريمة .. وتوقفوا عن التعليم وعملوا بتوزيع المخدرات وعرفوا النقود الكثيرة ولبس الملابس الغالية ولبس الخواتم الذهبية التي تلمع في أيديهم تحت ضوء الشمس .. واكتسبوا سحنا غريبة وهيئة معلمين صغار .. أما نحن فقد أحاطتنا أمي بذراعيها لكي لا نسقط في هذا المستنقع .. 

وتحملنا الحرمان سنوات طويلة وما زلنا وكنا أحيانا نقضي الأمسيات بلا مليم في جيوبنا وعشاؤنا من الخبز والفول ، ورفاق المدرسة القدامى يتصدرون "القعدة"  في الشارع تحت بیتا بالضبط ويأمرون بشراء الكباب ويدخنون المخدرات ويشربون الخمور وينفق الواحد منهم على عشائه في الليلة الواحدة ما يزيد عن قيمة معاشنا طوال شهر .


 


ولست نادما أبدا على فقرنا وحرماننا .. بل لقد زدت إكبارا لأمي حين كبرت وأدركت حجم حبها لنا وحرصها علينا بإبعادنا عن هذا الطريق وكيف أنها قد فعلت ذلك مضحية بصحتها .. وكيف حرمت نفسها فلم تهن ولم تضعف رغم المغريات .. ومثلها في حينا كثيرات ومثلنا كثيرون صدقتی بل نحن الأغلبية الصامتة الفقيرة في هذا الحي لكن الناس لا يتصورون ذلك ولا سامح الله منتجي الأفلام الذين صوروا للناس كل سكان الحي من تجار المخدرات وموزعيها ومدمنيها .. وليسامح الله الناس الذين لا يصدقون إلا هذه الصورة الزائفة ، فيكون ذلك على حساب کرامتا وحقنا المشروع في الحياة ، فهل تتصور أن شقيقتي الطالبة بالجامعة مثلا تقدم لها عريسان عن طريق بعض أقاربنا الواحد بعد الآخر .. أعجب كل منهما بشكلها وأخلاقها .. ثم ما أن علم أننا من سكان الحي اللعين حتى خرج ولم يعد مرة أخرى . فماذا نفعل في هذه المصيبة وليس لدينا ما يكفي لدفع خلو حجرة واحدة بعيدا عن هذا الحي .


 


إنني لا أكتب لك رسالتي هذه لكي يتبرع لنا أحد من ذوى القلوب الرحيمة بحجرة أو شقة صغيرة ، لكني أكتب لك لكي أطالبك بأن يتبنى الأهرام موضوع بناء مساكن شعبية لسكان هذا الحي اللعين وهو مشروع قديم من أيام الرئيس الراحل عبد الناصر ، وقد أثير مرة أخرى منذ شهور ثم نام من جديد فهذا الحي اللعين لا فائدة من أية حملات توجه إليه مهما كانت جديتها فالمخدرات فيه أكثر من الخبز البلدي !


ولكاتب هذه الرسالة أقول :


أنت على حق يا صديقي في كل ما قلت وأؤيدك فيم تطالب به وأضم صوتي إلى صوتك ، ولا أعتقد أني في حاجة لأن أقول للآخرين إنه ليس صحيحا أن كل سكان هذا الحي من أهل العالم السفلي الذي يشتغل بتجارة المخدرات .. فرسالتك أبلغ مني في التعبير عن هذه الحقيقة الصادقة . وهي شيء طبيعي لأنه ليس من المنطقي أن يكون هناك حي كل سكانه من غير الشرفاء ، أو أن يكون هناك حي كل سكانه من الشرفاء . 


فالشرف لا يرتبط بالتقسيم الجغرافي لخريطة المدينة لكن بعض "عمالقة" الفن الهابط لا يعرفون هذه الحقيقة أو لا تسمح لهم مداركهم بإدراكها .. فكانت هذه الصورة الظالمة التي قدموها للجميع عن حيكم ورسخرها في الأذهان حتى تحولت إلى فكرة ثابتة لدى البعض وهذا خطأ حقير وجريمة بشعة في حق أمثالكم من البسطاء الشرفاء .


 


ولا شك أن من ينفرون من صداقتكم ومن فروا من شقيقتك رغم إعجابهم بها هم من أسرى هذه الفكرة الخاطئة ، وكلهم مخطئون وأنتم ضحايا هذا الاعتقاد الشائن ، ولو امتلأت نفسك بالمرارة لما لمتك على ذلك ، فمن المؤلم حقا أن يحكم الناس عليك هذا الحكم الجائر .. وأنت من تعاني الحرمان وشظف العيش نأيا بنفسك عن هذا الطريق ، ومن أقسى ما يتعرض له الإنسان من ظلم أن يحاسبه الناس عما لم تجن يداه وعما لم تكن له فيه حيلة ، کإقامتك في هذا الحي اللعين ولا أدري لماذا يتعثر مشروع هدمه ونقل سكانه إلى حي آخر كما حدث مع حيين آخرين في القاهرة كانت تطاردهما نفس "اللعنة"، إنني لا أريد أن أطيل حديثي معك لأن رسالتك أبلغ من أي تعليق لكن رغم ذلك لا أستطيع أن أقاوم رغبتي في إبداء إعجابي بك وبأسرتك المكافحة التي تصنع كل يوم معجزة بمجرد استمرارها في الحياة وسط هذه العواصف والأنواء .. إنها صورة الأغلبية الصامتة في بلادنا التي تكافح كل يوم كفاح الأبطال وتنفر نفورا طبيعيا من الحرام وتخشاه .. وما أكثر المعجزات التي تشهدها الحياة كل يوم بعد انقضاء عصر المعجزات بزمن طويل . 

لكن هذا حديث آخر . فقبل إعجابي بك وبأسرتك وتقبل عظيم احترامي لهذه البطلة المجهولة التي قادت سفينتكم وسط الجنادل والصخور على حساب حرمانكم ومعاناتها لكي تحميكم من السقوط في الهاوية ولكی تصل بكم إلى بر الأمان إنها أم مثالية كغيرها من الأمهات الصابرات في بلادنا .. وأمثالها لا تعرف الجوائز طريقها إليهن .. فكونوا أنتم يا صديقي .. أنت وشقيقتك جائزتها الكبرى بتفوقكم في دراساتكم واستمراركم على هذا الطريق القويم .. 

وفقكم الله وأعانكم على نظرة المجتمع الظالمة لأمثالكم من الشرفاء .

ليست هناك تعليقات

يتم التشغيل بواسطة Blogger.